السؤال المطروح في عنوان هذه المقالة سؤال قديم، لكن بمعنى واحد فقط، وهو علاقة الدين بالعقل والبرهان. يعاد طرح السؤال نفسه في العصر الحديث بصيغة تختلف قليلاً أو كثيراً عما كانت عليه من قبل. وكان السؤال ولا يزال مصدراً لكثير من الجدل. مثار الجدل أن هذا السؤال يطرح إشكالية تستدعي أكثر من مقاربة، وتفترض أكثر من إجابة تبعاً لاختلاف الرؤية والمنهج. اتخذ السؤال صيغته الحديثة كنتيجة طبيعية لتطور الفكر الإنساني، ووصوله أخيراً إلى مرحلة التفكير العلمي مقابل مناهج التفكير الأخرى التي كانت سائدة قبل ذلك. برز العلم كمنهج، وطريقة نظر في العصر الحديث أمام الدين كمنهج آخر أقدم وأكثر رسوخاً في التراث الإنساني. في الإطار الإسلامي أيضاً طرح السؤال نفسه، وانقسمت الآراء حوله. هناك من يرى أن الدين هو العلم، والعلم هو الدين، وبالتالي لا يستقيم أن تكون هناك دعوة للفصل بينهما. الأكثر من ذلك أن أصحاب هذا الموقف يرون أن الدعوة إلى فصل الدين عن العلم هي دعوة علمانية، وهي بذلك تمثل موقفاً يرمي في الأخير إلى مناهضة الدين بهدف إقصائه من حياة الناس.
أحد أبرز الذين يتبنون هذا الموقف الشيخ يوسف القرضاوي. يقول الشيخ في كتابه "بينات الحل الإسلامي"، إن "الدين في الإسلام علم لأنه لا يعتمد على الوجدان وحده، بل يقوم على النظر والتفكير... والعلم في الإسلام دين لأن طلبه فريضة على كل مسلم ومسلمة..." ( ص21). وهنا يبدو اللبس واضحاً كل الوضوح في موقف الخطاب الديني من القضية. فالدين كما يرى الشيخ هو علم لأنه يقوم على النظر والتفكير. فاته أن الفلسفة تقوم أيضاً على النظر والتفكير، ولكن الفلسفة ليست من العلم في شيء. والفن بكل ألوانه يقوم على النظر والتفكير أيضاً، وكذلك الأمر بالنسبة للشعر والرواية. ومع ذلك فكل هذه الحقول لا تعتبر حقولاً علمية. في الجملة نفسها يرى الشيخ "أن العلم في الإسلام دين لأن طلبه فريضة على كل مسلم". هذا يعني أن الإسلام يحض على العلم، وعلى التفكير والتأمل، وهو أمر واضح في الكثير من الآيات القرآنية. لكن أن الإسلام يحض على العلم لا يمكن أن يعني بأن "العلم في الإسلام دين". ربما أن الشيخ القرضاوي يميز هنا بين "الدين" كمفهوم عام، وبين الدين كمفهوم إسلامي. وهذا ما يبدو من الجملة المقتبسة هنا. وتتضح هذه النظرة بشكل مباشر في الاقتباس الذي استشهد به القرضاوي في الكتاب نفسه، وأخذه عن الإمام عبد الحليم محمود، حيث يقول الإمام "إن مشكلة التعارض بين الدين والعلم إنما نِشأت في أوروبا بعيدة عن الجو الإسلامي، إنها تصور نزاعاً في بيئة بعيدة كل البعد عن الروح الإسلامية التي حثت الإنسانية على التعليم والتعلم، والتي نشأ المنهج العلمي -الذي يعتبرونه حديثاً- بين ربوعها قديماً بقدمها" (ص22). بعبارة أخرى، وحسب الشيخ يختلف موقف الدين المسيحي من العلم، كما حصل في أوروبا العصور الوسطى، عن موقف الدين الإسلامي. وهذا صحيح. لكن الصحيح أيضاً أن موقف الدين المسيحي من هذه القضية تغير لاحقاً، ولم يعد كما كان عليه. مما يشير إلى أن ما تغير هنا ليس بالضرورة موقف الدين كنص، وإنما ما تغير هو قراءة هذا النص بين مرحلة تاريخية وأخرى. ويمكن أن نقول شيئاً مشابهاً حصل في الحالة الإسلامية. حيث من المعروف أن التطور العلمي والحضاري للعرب لم يتحقق إلا في إطار الإسلام، وقد وصل هذا التطور ذروته في العصر العباسي الأول. ثم بعد ذلك دخل العالم الإسلامي مرحلة انحطاط حضاري وعلمي لا تزال مستمرة حتى الآن. ومرة أخرى، ما تغير هنا ليس موقف الدين الإسلامي من العلم والحضارة. الذي تغير هو رؤية المسلمين، وقراءة المسلمين لنص الدين الإسلامي. وكل ذلك يؤكد اختلاف الدين عن العلم.
وقد فات كل من الشيخ محمود، رحمه الله، والشيخ القرضاوي أن التمييز الذي يقيمانه بين الدين في الإسلام والدين في المسيحية مثلاً يتناقض مع المنهج العلمي. لأن الدين كمفهوم نظري واحد، وإن كان تجسد هذا الدين وتجلياته تختلف باختلاف الزمن والبيئة الثقافية، والمكان، والمرحلة التاريخية... إلخ. الإسلام والمسيحية كلاهما في الأصل دين سماوي منزل، وبالتالي فمصدرهما واحد. كيف يمكن في هذه الحالة التمييز بينهما جوهرياً، ومن حيث المبدأ؟ ربما فات الشيخين أن الاختلاف بين المسيحية والإسلام هو اختلاف ثقافي، وليس اختلافاً منهجياً يمس المعنى الأول والأساسي لكل منهما. ولأن الاختلاف بينهما هو اختلاف ثقافي، لابد أن تكون له تبعات ثقافية أيضاً يتركها على دور كل منهما، ودلالته داخل الإطار الثقافي والسياسي لكل منهما. فإذا كان الإنجيل قد تعرض لعملية تحريف لاحقاً، فهذا فعل ثقافي، ولا علاقة له بالمعنى الأصلي والنظري للمسيحية كدين، وهو الفعل الذي على أساسه تبلور معنى المسيحية. لكن في الأصل تشترك المسيحية مع الإسلام في المفهوم الأساسي للدين. ما قاله الشيخ محمود عن الفكر الكنسي في أوروبا العصور الوسطى، وموقفه من العلم صحيح تماماً. الإسلام كان ولا يزال يتميز من هذه الناحية عن المسيحية وغيرها بمميزات لا يمكن إنكارها، لأنها من حقائق التاريخ. لكن كل ذلك، وتحديداً أن الإسلام يحض على التفكير، وعلى العلم، لا يجيز القول بأن الدين هو العلم، وأن العلم هو الدين. ينبغي أن نتذكر مرة أخرى أن هذه الميزة لم تمنع المسلمين من الانزلاق إلى مهاوي التخلف بعد أن كانوا أحد المساهمين في التراكم الحضاري الإنساني.هناك إشكالية أخرى في موقف الخطاب الديني من مسألة علاقة الدين بالعلم، وهي أنه موقف يميل لأن يكون أخلاقياً ويضمر منحى أيديولوجياً. حيث أن موقف أصحاب الخطاب الديني من الرأي الآخر، الذي يرى الفصل بين المفهومين، لا يتحدد في الغالب انطلاقاً من الوجاهة العلمية، أو المنطقية لهذا الرأي المخالف، ولا ينطلق في مجادلته على أساس من المنطق العلمي، بل ينطلق في الأساس من قناعة عقدية (ليست علمية)، ومن أن النية المبيتة لأصحاب دعوة فصل الدين عن العلم هي مناهضة في العمق للدين ومقتضياته. والنية لا يمكن أن تكون موضوعاً للبحث العلمي. غالبا ما ينهي صاحب الخطاب الديني مجادلته حول القضية بأسئلة من مثل: هل نتخلى عن ثوابت ديننا لمجرد أن النظريات العلمية توصلت إلى نتائج تتناقض، أو لا تتفق تماماً مع هذه الثوابت؟ أو سؤال: هل العلم مقدم على الوحي؟ أو: هل يجب أن لا يلتزم البحث العلمي بمعطيات الوحي؟ وهذه ليست أسئلة علمية، بقدر ما أنها أسئلة خطابية؟ وإقحامها في الجدل علامة واضحة على مدى اللبس الذي يكتنف رؤية أصحاب هذه الرؤية من القضية المطروحة. وهي بالفعل رؤية شرعية، لكنها ليست رؤية علمية. ولعلي أسارع هنا إلى التنبيه إلى أن التمييز بين الشرعي والعلمي، أو الديني والعلمي هنا، لا يعني بأي شكل من الأشكال المفاضلة القيمية بين الاثنين، بقدر ما أنه تمييز بين منهجين مختلفين.في هذا السياق ربما ينبغي الالتفات إلى أن إصرار أصحاب الخطاب الديني على مماثلة العلم بالدين يتضمن إقراراً بوجاهة العلم وقيمته المعرفية، وتخوفاً مضمراً من أن محاولة فصله عن الدين، من ناحية ثانية، يتضمن التقليل من وجاهة الدين وقيمته المعرفية أيضاً. وهنا يصل اللبس لدى أصحاب الخطاب الديني من مسألة الفرق بين الدين والعلم ذروته
1st أكتوبر 2018, 4:52 pm من طرف Reda
» بيان الإعجاز العلمى فى تحديد التبيان الفعلى لموعد ( ليلة القدر ) على مدار كافة الأعوام والآيام
1st يوليو 2016, 2:11 pm من طرف usama
» كتاب اسرار الفراعنة
20th يوليو 2015, 7:11 am من طرف ayman farag
» أسرار الفراعنة القدماء يبحث حقيقة استخراج كنوز الأرض ــ الكتاب الذى أجمعت عليه وكالات الآنباء العالمية بأنه المرجع الآول لعلماء الآثار والمصريات والتاريخ والحفريات ــ الذى تخطى تحميله 2300 ضغطة تحميل
12th يوليو 2015, 4:15 pm من طرف farag latef
» ألف مبروك الآصدار الجديد ( الشيطان يعظ ) ونأمل المزيد والمزيد
26th أبريل 2015, 5:20 pm من طرف samer abd hussain
» ألف مبروك اصداركم الجديد ( السفاحون فى الآرض ) الذى يضعكم على منصة التتويج مع الدعاء بالتوفيق دوما
26th أبريل 2015, 5:17 pm من طرف samer abd hussain
» الباحث الكبير رجاء هام
12th أبريل 2015, 11:14 am من طرف الخزامي
» بيان الإعجاز العلمى فى تبيان فتح مغاليق ( التوراة السامرية ـ التوراة العبرانية )
10th أبريل 2015, 6:11 am من طرف الخزامي
» الرجاء .. ممكن كتاب أسرار الفراعنة المصريين القدماء للباحث العلمي الدكتور سيد جمعة
24th فبراير 2015, 4:37 am من طرف snowhitco