اللحن
من معاني اللحن: اللغة. "روي أن القرآن نزل بلحن قريش، أي بلغتهم. وفي حديث عمر رضي الله عنه: تعلموا الفرائض والسنة واللحن، بالتحريك، أي اللغة"، ومنه قول "عمر": "تعلموا الفرائض والسنن واللحن، كما تَعلَّمون القرآن". ومن معانيه الخطأ في الكلام. "قال أبو عبيد في قول عمر رضي الله عنه: تعلّموا اللحن، أي الخطأ في الكلام لتحترزوا منه"، وورد: "وأما قول عمر رضي الله عنه: تعلّموا اللحن والفرائض، فهو بتسكين الحاء، وهو الخطأ في الكلام ... قال أبو عدنان: سألت الكلابيين عن قول عمر: تعلّموا اللحن في القرآن كما تعلمونه، فقالوا: كُتب هذا عن قوم ليس لهم لغو كلغونا، قلت: ما اللغو ? فقال: الفاسد من الكلام. وقال الكلابيون: اللحن: اللغة. فالمعنى في قول عمر: تعلموا اللحن فيه، يقول: تعلموا كيف لغة العرب فيه الذين نزل القرآن بلغتهم"، "وجاء في رواية تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه، يريد تعلموا لغة العرب بإعرابها"، ووردت اللفظة بمعان أخرى. وقد أجمل العلماء ما جاء فيها من معان بستة معان: الخطأ في الإعراب، واللغة، والغناء، والفطنة، والتعريض، والمعنى.
وقد ذكر أن الرسول لما أرسل "سعد بن معاذ"، وهو يومئذ سيد الأوس و "سعد بن عبادة"، وهو يومئذ سيد الخزرج إلى "كعب بن أسد"، وكان قد نقض عهده للرسول وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله، قال لهما: "انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن كان حقاً فالحنوا إليّ لحناً أعرفه و لا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس"، فلما أتيناهم وجداهم على أخبث ما بلغهما عنهم، نالوا من رسول الله، "وقالوا: من رسول الله ! لا عهد بيننا وبين محمد و لا عقد"، فلما عادا إلى رسول الله قالا: "عضل والقارة. أي كغدر عضل والقارة"، فاللحن هنا بمعنى الإيماءة والاشارة والرمز، فاللحن هنا أن تريد الشئ فتوري عنه.
والذي أريده من اللحن، الخطأ في الكلام، والزيغ عن الإعراب، وهو معنى لا نستطيع فهمه من النصوص الجاهلية، لخلو تلك النصوص من الكركات، ومن الإشارة إلى قواعد لغاتها. ولذلك فلا مناص لنا لفهمه إلا بالرجوع إلى الموارد الإسلامية. وهي تذكر أن اللحن بهذا المعنى، لم يظهر إلا في الإسلام، ظهر بسبب دخول الأعاجم في دين الله، واختلاطهم بالعرب، وأخذهم لغتهم واتصال العرب بهم، ففسدت الألسنة، وظهر اللحن بين الموالي وبين العرب. وقد عيب ظهوره في العربي، حتى غلب على ألسنة الناس. وهم يذكرون ان العربي القح الأصيل، لم يكن يخطئ في كلامه، لأنه يتكلم عن طبع وسجية، ومن كان هذا شأنه، لا يقع اللحن في كلامه، أو لأنهم كانوا يتأملون مواقع الكلام ويعطونه في كل موقع حقه وحصته من الإعراب عن ميزة وعلى بصيرة.
يقول العلماء: وكان أول لحن ظهر بين العرب على عهد النبي، فقد رووا أن الرسول سمع رجلاً يقرأ فلحن، فقال: ارشدوا أخاكم، أو ارشدوا أخاكم فإنه قد ضل، ثم فشا وانتشر في مواضع الإختلاط خاصة، حيث اختلط العجم بالعرب، كالعراق و بلاد الشام ومصر، حتى دخل أعمال الحكومة، فأخطأ الكتاب في النحو، وأفحشوا في الإعراب، فكتب كاتب من كتاب "أبي موسى" الأشعري كتاباً فيه، "من أبو موسى ..."أو ما شابه ذلك من خطأ في القول، فكتب "عمر" إلى عامله: "سلام عليك. أما بعد، فاضرب كاتبك سوطاً واحداً، وأخر عطاءه سنة": أو: "إذا أتاك كتابي هذا، فاجلده سوطاً واعزله عن عملك"، أو "قنع كاتبك سوطاً"، أو: "ان كاتبك الذي كتب إليّ لحن، فاضربه سوطاً"، وذكر "الجاحظ"، أن "الحصين بن أبي الحرّ"كتب إلى "عُمر" كتاباً "فلحن في حرف منه، فكتب إليه عمر: أن قنع كاتبك سوطاً".
وسبب ذلك انهم كانوا يرون ان اللحن عيب مشين. قال "عبد الملك بن مروان: اللحن هجنة على الشريف، والعجب آفة الرأي. وكان يقال: اللحن في المنطق أقبح من آثار الجدري في الوجه".
و لا يمكن تفسير قول القائل ان "اللحن بمعنى الخطأ محدث، لم يكن في العرب العاربة الذين تكلموا بطباعهم السليمة"، الا أن يكون مراده أن الجاهليين كانوا يتكلمون بطباعهم السليمة بلغاتهم، كل يتكلم بلغته، ووفق سجيته ولسانه الذي أخذه من بيته، فهو ينطق وفق ما سمع وحفظ، فلا يلحن في الكلام بلسانه الذي أخذه من أهله، وهو رأي أقول أنه على الجملة مقبول معقول. أما اذ أريد به، أن العرب كانوا جميعاً يتكلمون بلسان واحد، فلا يخطئ أحدهم فيه و لا يلحن، فإن ذلك يتعارض مع قولهم بوجود اللغات، وبأن تلك اللغات كانت تتباين في أمور كثيرة في جملتها قواعد في النحو والإعراب، كما في "ذي" الطائية، وفي اعراب المثنى بالألف مطلقاً، رفعاً ونصباً وجرّاً وذلك في لغة "بلحرث"و "خثعم" و "كنانة"، فيقولون: جاء الرجلان، و رأيت الرجلان، و مررت بالرجلان، وكما في "كم" الخبرية، حيث ينصب "بنو تميم" تمييز "كم"، و لغة غيرهم وجوب جره و جواز إفراده و جمعه، و كما في إعراب "الذين" من أسماء الموصول إعراب جمع المذكر السالم في لغة "هذيل"، أو "عقيل" و في قول بعضهم هذه النخيل و قول بعض آخر هذا النخيل إلى غير ذلك من مواطن خلاف و تباين بحث فيها العلماء، لا مجال للبحث فيها في هذا المكان ، و وجدود هذا الاختلاف، هو دليل في حد ذاتهعلى خروج القبائل على قواعد اللغة، و الخروج على القواعد هو الحن.
لقد أقر علماء العربية بوجود خلاف بين القبائل المتكلمة بلهجات عربية شمالية، وقد أشرت إلى مواضع ذكروها في هذا الباب، و كشف علماء النحو عن خلاف في قواعد النحو، في مثل اختلاف القبائل في التذكير و التأنيث، كما في مثل الطريق و السوق و السبيل و التمر، فهي ألفاظ مؤنثة عند اهل الحجاز، وهي مذكرة عند قبائل أخرى، و كشفوا عن أمور أخرى إن تكلم المتكلم أو كتب بها عدّ صدور ذلك لحنا منه، فهل يعدّ العربي المتكلم بلهجة من هذه اللهجات المخالفة مخالفاً لقواعد العربية، أي لحّاناً، كما نعد الاعجمي الذي يقع في الخطأ نفسه، أم نعدّه فصيحاً، عربي اللسان و السليقة? أما الاعجمي الذي يقع في الخطأ ذاته فنعده لحّاناً لحنة! لقد ذكروا ان الرسول "حين جاءته وفود العرب، فكان يحاطبهم جميعاً على اختلاف شعوبهم و قبائلهم و تباين بطونهم و أفخاذهم، و على ما في لغاتهم من اختلاف الاوضاع و تفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين إن أصحابه رضوان الله عليهم و من يفد عليه من وفود العرب الذين لا يوجَّه اليهم الخطاب، كانوا يجهلون من ذلك أشياء كثيرة، حتى قال له علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه و سمعه يخاطب بني نهدّ: يا رسول الله، نحن بنوا أب واحد و نراك تككلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره? فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم، يوضح لهم ما يسألونه عنه مما يجهلون معناه من تلك الكلمات"، فهل يعقل بعد، أن يقال إن العربي كان لا يلحن و لا يخطئ في كلامه و لا يزيغ عن العربية المبينة، و العرب هم على هم عليه من اختلاف في اللجات، الذي يدفع حتماً على وقوع اللحن، لو تكلموا بالعربية القرآنية، أي هذه العربية التي يسميها علماء اللغة لغة قريش، و التي هي اللسان العربي المبين على تسمية القرآن لها.
ثم كيف نفسر حديث: "أرشدوا أخاكم"، أو "أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل" مع قولهم ان العربي لا يخطئ في كلامه ولا يلحن، لآنه يتكلم عن طبع و سليقة، و لم يكن هذا الذي لحن أمام الرسول، أعجمياً، و إنما كان عربيا، غأذا كان الامر كذلك، فكيف وقع اللحن إذن? ثم كيف نفسر خبر سماع الأمام "علي" أعرابياً، وهو يلحن في القرآن و يقرأ: )لا يأكله إلا الخاطئين"، أو حبر ذلك الأعرابي الذي قرأ )إن الله بريء من المشركين و رسولِه( بالجر، لأن رجلاً من أهل المدينة أقرأه إياه على هذا النحو، فبلغ ذلك "عمر"، فأمر ألاّ يقرأ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود أن يضع النحو، و الأعراب هم لبّ العرب، و صفوتهم في الكلام، فكيف وقع هذا الاعرابي في اللحن ياترى? ثم كيف نفسر قول من زعم أن في القرآن آيات فيها لحن، مثل: )إن هذان لساحران(، )و المقيمين الصلاة و المؤتون الزكاة(، )وان الذين آمنوا و الذين هادوا و الصابئون(، و مواضع أخرى تحتاج إلى تأويل ليستقيم إعرابها، أو إلى إصلاح أملائها لتنجو من اللحن.
ثم كيف اختلف قراء القرآن في نصب "الطير" في الآية: )يا جبال أوبي معه و الطير( أو رفعها، و أختلافهم في ضم الفاء أو فتحها في الآية: )لقد جائكم رسول من أنفسكم(، و اختلافهم في بناء الفعل للمجهول أو للمعلوم في الآية: )الم. غلبت الروم(، و غير ذلك من مواضع اختلاف، فيها القرّاء، مع كونهم من العرب الأقحاح.
ثم كيف نفسر اضطراب العلماء و ذهابهم مذهاب في قراءة الآية: )قالوا: إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم و يذهبا بطريقتكم المثلى(، و تأويلهم القراءة جملة تأويلات، لأن القاعدة النحوية تقول: "ان هذين" بينما القراءة: "إن هذين"، فعللوها جملة تعليلات، منها أن هذه القراءة نزلت بلغة "بني الحارث بن كعب" ومن جاورهم يجعلون الاثنين، أي المثنى في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف، كما في قول بعض "بني الحارث بن كعب": فأطرق اطراق الشجاع و لو يرى مساغاً لناباه الشجاع لصـمـمـا
و قيل إن هذه القراءة، هي قراءة بلحارث بن كعب، وخثعم، وزبيد ومن وليهم من اليمن. ونسبها "الزجاج "إلى كنانة، وابن جني إلى بعض بني ربيعة.
ثم ما ورد في خبر آخر عن سعيد بن جبير، من قوله: "في القرآن أربعة أحرف لحن: الصابئون، والمقيمين، و فأصدّقَ وأكن من الصالحين، وإن هذان لساحران" إلى غير ذلك من أخبار. ثم ما ورد من قول "عثمان": "إن في القرآن لحناً، وستقيمه العرب بألسنتها"، وأمثال ذلك، و ما ذكر من أن "أبا بكر"، كان يستحب أن يُسقط القارئ الكلمة من قراءته على أن يلحن فيها، أفلا يدل هذا الخبر، على أن اللحن كان معروفاً ومتفشياً في عهد "أبي بكر"، و ما روي في رواية تقول: "لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان رضي الله عنه، فوجد فيها حروفاً من اللحن، فقال: لا تغيروها فإن العرب ستغيرها، أو قال ستعربها بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف و المملي من هذيل لم يوجد فيه هذه"، ثم ما ورد من وقوع اللحن من عرب أقحاح، ومنهم من ولى الحكم وادارة أمور المسلمين، ومنهم أبنة "أبي الأسود الدؤلي" التي لحنت أمامه، فعمل باب التعجب على ما يزعمه الرواة.
وتوحي الأحاديث الواردة في الحث على إعراب القرآن، والكتب التي ألفها العلماء في إعرابه، أن من العرب: من أهل مدر وأهل وبر، من كان يقرأ القرآن بغير إعراب، أما لأن لغته لم تكن معربة، وأما لأن إعرابها كان لا يتجانس مع إعراب القرآن، و سببه أن الجاهليين لم يكونوا يتقيدون جميعاً بقواعد الإعراب، فمنهم من كان يتحلل منه، ومنهم من يعمل به وفق قواعد لغته ولهجته، و دليل ذلك قراءة الصحابة القرآن بألسنتهم، مما سبب في ظهور مشكلة القراءات، و هذا ما أخاف الصحابة، وجعلها تخشى من احتمال ظهور قرائين مختلفة، مما حمل "عثمان" على توحيد لغة القرآن، وتدوين كتاب الله حسب التوصيات التي أعطاها إلى اللجنة التي كلفها بتدوينه.
أضف إلى ذلك ما نجده في الكتب من إجازة اصلاح اللحن والخطأ في الحديث. من مثل ما نسب إلى الأوزاعي من قوله: "لا بأس بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث"، وقوله: "اعربوا الحديث فإن القوم كانوا عرباً"، ومثل ما نسب إلى "يحيى بن معن" من قوله: "لا بأس أن يقوم الرجل حديثه على العربية" و إلى "أبن أبي رباح" حين سئل عن الرجل يحدث بالحديث فيلحن، هل يحدث به كما سمع منه أم يعرب، فقال لسائله: لا، بل اعربه. و ما ورد في أقوال العلماء في جواز أو عدم جواز اصلاح اللحن في الحديث، واختلافهم فيه، هو دليل على أن من العرب من كان يقع في اللحن أيضاً، وان اللحن لم يقع من الأعاجم وحدهم.
ثم ان من غير المعقول ألا يقع اللحن من أهل اليمن ومن بقية عرب العربية الجنوبية، الذين كانوا يتكلمون بألسنة عربية جنوبية، رأينا أنها تختلف عن عربيتنا في مفردات الألفاظ وفي قواعد النحو والصرف.
من معاني اللحن: اللغة. "روي أن القرآن نزل بلحن قريش، أي بلغتهم. وفي حديث عمر رضي الله عنه: تعلموا الفرائض والسنة واللحن، بالتحريك، أي اللغة"، ومنه قول "عمر": "تعلموا الفرائض والسنن واللحن، كما تَعلَّمون القرآن". ومن معانيه الخطأ في الكلام. "قال أبو عبيد في قول عمر رضي الله عنه: تعلّموا اللحن، أي الخطأ في الكلام لتحترزوا منه"، وورد: "وأما قول عمر رضي الله عنه: تعلّموا اللحن والفرائض، فهو بتسكين الحاء، وهو الخطأ في الكلام ... قال أبو عدنان: سألت الكلابيين عن قول عمر: تعلّموا اللحن في القرآن كما تعلمونه، فقالوا: كُتب هذا عن قوم ليس لهم لغو كلغونا، قلت: ما اللغو ? فقال: الفاسد من الكلام. وقال الكلابيون: اللحن: اللغة. فالمعنى في قول عمر: تعلموا اللحن فيه، يقول: تعلموا كيف لغة العرب فيه الذين نزل القرآن بلغتهم"، "وجاء في رواية تعلموا اللحن في القرآن كما تتعلمونه، يريد تعلموا لغة العرب بإعرابها"، ووردت اللفظة بمعان أخرى. وقد أجمل العلماء ما جاء فيها من معان بستة معان: الخطأ في الإعراب، واللغة، والغناء، والفطنة، والتعريض، والمعنى.
وقد ذكر أن الرسول لما أرسل "سعد بن معاذ"، وهو يومئذ سيد الأوس و "سعد بن عبادة"، وهو يومئذ سيد الخزرج إلى "كعب بن أسد"، وكان قد نقض عهده للرسول وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله، قال لهما: "انطلقوا حتى تنظروا أحق ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا، فإن كان حقاً فالحنوا إليّ لحناً أعرفه و لا تفتوا في أعضاد الناس، وإن كانوا على الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للناس"، فلما أتيناهم وجداهم على أخبث ما بلغهما عنهم، نالوا من رسول الله، "وقالوا: من رسول الله ! لا عهد بيننا وبين محمد و لا عقد"، فلما عادا إلى رسول الله قالا: "عضل والقارة. أي كغدر عضل والقارة"، فاللحن هنا بمعنى الإيماءة والاشارة والرمز، فاللحن هنا أن تريد الشئ فتوري عنه.
والذي أريده من اللحن، الخطأ في الكلام، والزيغ عن الإعراب، وهو معنى لا نستطيع فهمه من النصوص الجاهلية، لخلو تلك النصوص من الكركات، ومن الإشارة إلى قواعد لغاتها. ولذلك فلا مناص لنا لفهمه إلا بالرجوع إلى الموارد الإسلامية. وهي تذكر أن اللحن بهذا المعنى، لم يظهر إلا في الإسلام، ظهر بسبب دخول الأعاجم في دين الله، واختلاطهم بالعرب، وأخذهم لغتهم واتصال العرب بهم، ففسدت الألسنة، وظهر اللحن بين الموالي وبين العرب. وقد عيب ظهوره في العربي، حتى غلب على ألسنة الناس. وهم يذكرون ان العربي القح الأصيل، لم يكن يخطئ في كلامه، لأنه يتكلم عن طبع وسجية، ومن كان هذا شأنه، لا يقع اللحن في كلامه، أو لأنهم كانوا يتأملون مواقع الكلام ويعطونه في كل موقع حقه وحصته من الإعراب عن ميزة وعلى بصيرة.
يقول العلماء: وكان أول لحن ظهر بين العرب على عهد النبي، فقد رووا أن الرسول سمع رجلاً يقرأ فلحن، فقال: ارشدوا أخاكم، أو ارشدوا أخاكم فإنه قد ضل، ثم فشا وانتشر في مواضع الإختلاط خاصة، حيث اختلط العجم بالعرب، كالعراق و بلاد الشام ومصر، حتى دخل أعمال الحكومة، فأخطأ الكتاب في النحو، وأفحشوا في الإعراب، فكتب كاتب من كتاب "أبي موسى" الأشعري كتاباً فيه، "من أبو موسى ..."أو ما شابه ذلك من خطأ في القول، فكتب "عمر" إلى عامله: "سلام عليك. أما بعد، فاضرب كاتبك سوطاً واحداً، وأخر عطاءه سنة": أو: "إذا أتاك كتابي هذا، فاجلده سوطاً واعزله عن عملك"، أو "قنع كاتبك سوطاً"، أو: "ان كاتبك الذي كتب إليّ لحن، فاضربه سوطاً"، وذكر "الجاحظ"، أن "الحصين بن أبي الحرّ"كتب إلى "عُمر" كتاباً "فلحن في حرف منه، فكتب إليه عمر: أن قنع كاتبك سوطاً".
وسبب ذلك انهم كانوا يرون ان اللحن عيب مشين. قال "عبد الملك بن مروان: اللحن هجنة على الشريف، والعجب آفة الرأي. وكان يقال: اللحن في المنطق أقبح من آثار الجدري في الوجه".
و لا يمكن تفسير قول القائل ان "اللحن بمعنى الخطأ محدث، لم يكن في العرب العاربة الذين تكلموا بطباعهم السليمة"، الا أن يكون مراده أن الجاهليين كانوا يتكلمون بطباعهم السليمة بلغاتهم، كل يتكلم بلغته، ووفق سجيته ولسانه الذي أخذه من بيته، فهو ينطق وفق ما سمع وحفظ، فلا يلحن في الكلام بلسانه الذي أخذه من أهله، وهو رأي أقول أنه على الجملة مقبول معقول. أما اذ أريد به، أن العرب كانوا جميعاً يتكلمون بلسان واحد، فلا يخطئ أحدهم فيه و لا يلحن، فإن ذلك يتعارض مع قولهم بوجود اللغات، وبأن تلك اللغات كانت تتباين في أمور كثيرة في جملتها قواعد في النحو والإعراب، كما في "ذي" الطائية، وفي اعراب المثنى بالألف مطلقاً، رفعاً ونصباً وجرّاً وذلك في لغة "بلحرث"و "خثعم" و "كنانة"، فيقولون: جاء الرجلان، و رأيت الرجلان، و مررت بالرجلان، وكما في "كم" الخبرية، حيث ينصب "بنو تميم" تمييز "كم"، و لغة غيرهم وجوب جره و جواز إفراده و جمعه، و كما في إعراب "الذين" من أسماء الموصول إعراب جمع المذكر السالم في لغة "هذيل"، أو "عقيل" و في قول بعضهم هذه النخيل و قول بعض آخر هذا النخيل إلى غير ذلك من مواطن خلاف و تباين بحث فيها العلماء، لا مجال للبحث فيها في هذا المكان ، و وجدود هذا الاختلاف، هو دليل في حد ذاتهعلى خروج القبائل على قواعد اللغة، و الخروج على القواعد هو الحن.
لقد أقر علماء العربية بوجود خلاف بين القبائل المتكلمة بلهجات عربية شمالية، وقد أشرت إلى مواضع ذكروها في هذا الباب، و كشف علماء النحو عن خلاف في قواعد النحو، في مثل اختلاف القبائل في التذكير و التأنيث، كما في مثل الطريق و السوق و السبيل و التمر، فهي ألفاظ مؤنثة عند اهل الحجاز، وهي مذكرة عند قبائل أخرى، و كشفوا عن أمور أخرى إن تكلم المتكلم أو كتب بها عدّ صدور ذلك لحنا منه، فهل يعدّ العربي المتكلم بلهجة من هذه اللهجات المخالفة مخالفاً لقواعد العربية، أي لحّاناً، كما نعد الاعجمي الذي يقع في الخطأ نفسه، أم نعدّه فصيحاً، عربي اللسان و السليقة? أما الاعجمي الذي يقع في الخطأ ذاته فنعده لحّاناً لحنة! لقد ذكروا ان الرسول "حين جاءته وفود العرب، فكان يحاطبهم جميعاً على اختلاف شعوبهم و قبائلهم و تباين بطونهم و أفخاذهم، و على ما في لغاتهم من اختلاف الاوضاع و تفاوت الدلالات في المعاني اللغوية، على حين إن أصحابه رضوان الله عليهم و من يفد عليه من وفود العرب الذين لا يوجَّه اليهم الخطاب، كانوا يجهلون من ذلك أشياء كثيرة، حتى قال له علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه و سمعه يخاطب بني نهدّ: يا رسول الله، نحن بنوا أب واحد و نراك تككلم وفود العرب بما لا نفهم أكثره? فكان رسول الله صلى الله عليه و سلم، يوضح لهم ما يسألونه عنه مما يجهلون معناه من تلك الكلمات"، فهل يعقل بعد، أن يقال إن العربي كان لا يلحن و لا يخطئ في كلامه و لا يزيغ عن العربية المبينة، و العرب هم على هم عليه من اختلاف في اللجات، الذي يدفع حتماً على وقوع اللحن، لو تكلموا بالعربية القرآنية، أي هذه العربية التي يسميها علماء اللغة لغة قريش، و التي هي اللسان العربي المبين على تسمية القرآن لها.
ثم كيف نفسر حديث: "أرشدوا أخاكم"، أو "أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل" مع قولهم ان العربي لا يخطئ في كلامه ولا يلحن، لآنه يتكلم عن طبع و سليقة، و لم يكن هذا الذي لحن أمام الرسول، أعجمياً، و إنما كان عربيا، غأذا كان الامر كذلك، فكيف وقع اللحن إذن? ثم كيف نفسر خبر سماع الأمام "علي" أعرابياً، وهو يلحن في القرآن و يقرأ: )لا يأكله إلا الخاطئين"، أو حبر ذلك الأعرابي الذي قرأ )إن الله بريء من المشركين و رسولِه( بالجر، لأن رجلاً من أهل المدينة أقرأه إياه على هذا النحو، فبلغ ذلك "عمر"، فأمر ألاّ يقرأ القرآن إلا عالم باللغة، وأمر أبا الأسود أن يضع النحو، و الأعراب هم لبّ العرب، و صفوتهم في الكلام، فكيف وقع هذا الاعرابي في اللحن ياترى? ثم كيف نفسر قول من زعم أن في القرآن آيات فيها لحن، مثل: )إن هذان لساحران(، )و المقيمين الصلاة و المؤتون الزكاة(، )وان الذين آمنوا و الذين هادوا و الصابئون(، و مواضع أخرى تحتاج إلى تأويل ليستقيم إعرابها، أو إلى إصلاح أملائها لتنجو من اللحن.
ثم كيف اختلف قراء القرآن في نصب "الطير" في الآية: )يا جبال أوبي معه و الطير( أو رفعها، و أختلافهم في ضم الفاء أو فتحها في الآية: )لقد جائكم رسول من أنفسكم(، و اختلافهم في بناء الفعل للمجهول أو للمعلوم في الآية: )الم. غلبت الروم(، و غير ذلك من مواضع اختلاف، فيها القرّاء، مع كونهم من العرب الأقحاح.
ثم كيف نفسر اضطراب العلماء و ذهابهم مذهاب في قراءة الآية: )قالوا: إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم و يذهبا بطريقتكم المثلى(، و تأويلهم القراءة جملة تأويلات، لأن القاعدة النحوية تقول: "ان هذين" بينما القراءة: "إن هذين"، فعللوها جملة تعليلات، منها أن هذه القراءة نزلت بلغة "بني الحارث بن كعب" ومن جاورهم يجعلون الاثنين، أي المثنى في رفعهما ونصبهما وخفضهما بالألف، كما في قول بعض "بني الحارث بن كعب": فأطرق اطراق الشجاع و لو يرى مساغاً لناباه الشجاع لصـمـمـا
و قيل إن هذه القراءة، هي قراءة بلحارث بن كعب، وخثعم، وزبيد ومن وليهم من اليمن. ونسبها "الزجاج "إلى كنانة، وابن جني إلى بعض بني ربيعة.
ثم ما ورد في خبر آخر عن سعيد بن جبير، من قوله: "في القرآن أربعة أحرف لحن: الصابئون، والمقيمين، و فأصدّقَ وأكن من الصالحين، وإن هذان لساحران" إلى غير ذلك من أخبار. ثم ما ورد من قول "عثمان": "إن في القرآن لحناً، وستقيمه العرب بألسنتها"، وأمثال ذلك، و ما ذكر من أن "أبا بكر"، كان يستحب أن يُسقط القارئ الكلمة من قراءته على أن يلحن فيها، أفلا يدل هذا الخبر، على أن اللحن كان معروفاً ومتفشياً في عهد "أبي بكر"، و ما روي في رواية تقول: "لما كتبت المصاحف عرضت على عثمان رضي الله عنه، فوجد فيها حروفاً من اللحن، فقال: لا تغيروها فإن العرب ستغيرها، أو قال ستعربها بألسنتها، لو كان الكاتب من ثقيف و المملي من هذيل لم يوجد فيه هذه"، ثم ما ورد من وقوع اللحن من عرب أقحاح، ومنهم من ولى الحكم وادارة أمور المسلمين، ومنهم أبنة "أبي الأسود الدؤلي" التي لحنت أمامه، فعمل باب التعجب على ما يزعمه الرواة.
وتوحي الأحاديث الواردة في الحث على إعراب القرآن، والكتب التي ألفها العلماء في إعرابه، أن من العرب: من أهل مدر وأهل وبر، من كان يقرأ القرآن بغير إعراب، أما لأن لغته لم تكن معربة، وأما لأن إعرابها كان لا يتجانس مع إعراب القرآن، و سببه أن الجاهليين لم يكونوا يتقيدون جميعاً بقواعد الإعراب، فمنهم من كان يتحلل منه، ومنهم من يعمل به وفق قواعد لغته ولهجته، و دليل ذلك قراءة الصحابة القرآن بألسنتهم، مما سبب في ظهور مشكلة القراءات، و هذا ما أخاف الصحابة، وجعلها تخشى من احتمال ظهور قرائين مختلفة، مما حمل "عثمان" على توحيد لغة القرآن، وتدوين كتاب الله حسب التوصيات التي أعطاها إلى اللجنة التي كلفها بتدوينه.
أضف إلى ذلك ما نجده في الكتب من إجازة اصلاح اللحن والخطأ في الحديث. من مثل ما نسب إلى الأوزاعي من قوله: "لا بأس بإصلاح اللحن والخطأ في الحديث"، وقوله: "اعربوا الحديث فإن القوم كانوا عرباً"، ومثل ما نسب إلى "يحيى بن معن" من قوله: "لا بأس أن يقوم الرجل حديثه على العربية" و إلى "أبن أبي رباح" حين سئل عن الرجل يحدث بالحديث فيلحن، هل يحدث به كما سمع منه أم يعرب، فقال لسائله: لا، بل اعربه. و ما ورد في أقوال العلماء في جواز أو عدم جواز اصلاح اللحن في الحديث، واختلافهم فيه، هو دليل على أن من العرب من كان يقع في اللحن أيضاً، وان اللحن لم يقع من الأعاجم وحدهم.
ثم ان من غير المعقول ألا يقع اللحن من أهل اليمن ومن بقية عرب العربية الجنوبية، الذين كانوا يتكلمون بألسنة عربية جنوبية، رأينا أنها تختلف عن عربيتنا في مفردات الألفاظ وفي قواعد النحو والصرف.
1st أكتوبر 2018, 4:52 pm من طرف Reda
» بيان الإعجاز العلمى فى تحديد التبيان الفعلى لموعد ( ليلة القدر ) على مدار كافة الأعوام والآيام
1st يوليو 2016, 2:11 pm من طرف usama
» كتاب اسرار الفراعنة
20th يوليو 2015, 7:11 am من طرف ayman farag
» أسرار الفراعنة القدماء يبحث حقيقة استخراج كنوز الأرض ــ الكتاب الذى أجمعت عليه وكالات الآنباء العالمية بأنه المرجع الآول لعلماء الآثار والمصريات والتاريخ والحفريات ــ الذى تخطى تحميله 2300 ضغطة تحميل
12th يوليو 2015, 4:15 pm من طرف farag latef
» ألف مبروك الآصدار الجديد ( الشيطان يعظ ) ونأمل المزيد والمزيد
26th أبريل 2015, 5:20 pm من طرف samer abd hussain
» ألف مبروك اصداركم الجديد ( السفاحون فى الآرض ) الذى يضعكم على منصة التتويج مع الدعاء بالتوفيق دوما
26th أبريل 2015, 5:17 pm من طرف samer abd hussain
» الباحث الكبير رجاء هام
12th أبريل 2015, 11:14 am من طرف الخزامي
» بيان الإعجاز العلمى فى تبيان فتح مغاليق ( التوراة السامرية ـ التوراة العبرانية )
10th أبريل 2015, 6:11 am من طرف الخزامي
» الرجاء .. ممكن كتاب أسرار الفراعنة المصريين القدماء للباحث العلمي الدكتور سيد جمعة
24th فبراير 2015, 4:37 am من طرف snowhitco